الصفحة الرئيسية
>
شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم
ثم قال: {واتقوا الله إِنَّ الله خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ} كرر الأمر بالتقوى تأكيدًا أو يحمل الأول: على أداء الواجبات والثاني: على ترك المعاصي.ثم قال تعالى: {وَلاَ تَكُونُواْ كالذين نَسُواْ الله فأنساهم أَنفُسَهُمْ} وفيه وجهان: الأول: قال المقاتلان: نسوا حق الله فجعلهم ناسين حق أنفسهم حتى لم يسعوا لها بما ينفعهم عنده الثاني: {فأنساهم أَنفُسَهُمْ} أي أراهم يوم القيامة من الأهوال ما نسوا فيه أنفسهم، كقوله: {لاَ يَرْتَدُّ إِلَيْهِمْ طَرْفُهُمْ وَأَفْئِدَتُهُمْ} [إبراهيم: 43] {وَتَرَى الناس سكارى وَمَا هُم بسكارى} [الحج: 2].ثم قال: {أولئك هُمُ الفاسقون} والمقصود منه الذم، واعلم أنه تعالى لما أرشد المؤمنين إلى ما هو مصلحتهم يوم القيامة بقوله: {وَلْتَنظُرْ نَفْسٌ مَّا قَدَّمَتْ لِغَدٍ} [الحشر: 18] وهدد الكافرين بقوله: {كالذين نَسُواْ الله فأنساهم أَنفُسَهُمْ} بين الفرق بين الفريقين فقال: {لَا يَسْتَوِي أَصْحَابُ النَّارِ وَأَصْحَابُ الْجَنَّةِ أَصْحَابُ الْجَنَّةِ هُمُ الْفَائِزُونَ (20)}واعلم أن التفاوت بين هذين الفريقين معلوم بالضرورة، فذكر هذا الفرق في مثل هذا الموضع يكون الغرض منه التنبيه على عظم ذلك الفرق، وفيه مسألتان:المسألة الأولى:المعتزلة احتجوا على أن صاحب الكبيرة لا يدخل الجنة، لأن الآية دلت على أن أصحاب النار وأصحاب الجنة لا يستويان، فلو دخل صاحب الكبيرة في الجنة لكان أصحاب النار وأصحاب الجنة يستويان، وهو غير جائز، وجوابه معلوم.المسألة الثانية:احتج أصحابنا بهذه الآية على أن المسلم لا يقتل بالذمي، وقد بينا وجهه في الخلافيات.ثم إنه تعالى لما شرح هذه البيانات عظم أمر القرآن فقال: {لَوْ أَنزَلْنَا هذا القرءان على جَبَلٍ لَّرَأَيْتَهُ خاشعا مُّتَصَدّعًا مِّنْ خَشْيَةِ الله} والمعنى أنه لو جعل في الجبل عقل كما جعل فيكم، ثم أنزل عليه القرآن لخشع وخضع وتشقق من خشية الله.ثم قال: {وَتِلْكَ الأمثال نَضْرِبُهَا لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ} أي الغرض من ذكر هذا الكلام التنبيه على قساوة قلوب هؤلاء الكفار، وغلظ طباعهم، ونظير قوله: {ثُمَّ قَسَتْ قُلُوبُكُمْ مّن بَعْدِ ذلك فَهِيَ كالحجارة أَوْ أَشَدُّ قَسْوَةً} [البقرة: 74]. اهـ.
وقال الحسن وقتادة: قرّب الساعة حتى جعلها كغَدٍ.ولا شك أن كل آتٍ قريبٌ؛ والموت لا محالة آتٍ.ومعنى {ما قَدَّمت} يعني من خير أو شر.{واتقوا الله} أعاد هذا تكريرًا، كقولك: اعجل اعجل، اِرْم اِرْم.وقيل التقوى الأولى التوبة فيما مضى من الذنوب، والثانية اتقاء المعاصي في المستقبل.{إِنَّ الله خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ} قال سعيد بن جبير: أي بما يكون منكم.والله أعلم.قوله تعالى: {وَلاَ تَكُونُواْ كالذين نَسُواْ الله} أي تركوا أمره {فَأَنسَاهُمْ أَنفُسَهُمْ} أن يعملوا لها خيرًا؛ قاله ابن حبان.وقيل: نسوا حق الله فانساهم حق أنفسهم؛ قاله سفيان.وقيل: {نَسُواْ الله} بترك شكره وتعظيمه.{فَأَنسَاهُمْ أَنفُسَهُمْ} بالعذاب أن يذكر بعضهم بعضًا؛ حكاه ابن عيسى.وقال سهل بن عبد الله: {نَسُواْ الله} عند الذنوب {فَأَنسَاهُمْ أَنفُسَهُمْ} عند التوبة.ونسب تعالى الفعل إلى نفسه في {أَنْسَاهُمْ} إذ كان ذلك بسبب أمره ونهيه الذي تركوه.وقيل: معناه وجدهم تاركين أمره ونهيه؛ كقولك: أحمدت الرجل إذا وجدته محمودًا.وقيل: {نَسُواْ الله} في الرخاء {فَأَنسَاهُمْ أَنفُسَهُمْ} في الشدائد.{أولئك هُمُ الفاسقون} قال ابن جبير: العاصون.وقال ابن زيد: الكاذبون.وأصل الفسق الخروج؛ أي الذين خرجوا عن طاعة الله.قوله تعالى: {لاَ يستوي أَصْحَابُ النار وَأَصْحَابُ الجنة} أي في الفضل والرتبة {أَصْحَابُ الجنة هُمُ الفآئزون} أي المقربون المكرمون.وقيل: الناجون من النار.وقد مضى الكلام في معنى هذه الآية في (المائدة) عند قوله تعالى: {قُل لاَّ يَسْتَوِي الخبيث والطيب} [المائدة: 100].وفي سورة (السجدة) عند قوله تعالى: {أَفَمَن كَانَ مُؤْمِنًا كَمَن كَانَ فَاسِقًا لاَّ يَسْتَوُونَ} [السجدة: 18].وفي سورة (ص) {أَمْ نَجْعَلُ الذين آمَنُواْ وَعَمِلُواْ الصالحات كالمفسدين فِي الأرض أَمْ نَجْعَلُ المتقين كالفجار} [ص: 28] فلا معنى للإعادة، والحمد الله.قوله تعالى: {لَوْ أَنزَلْنَا هذا القرآن على جَبَلٍ لَّرَأَيْتَهُ خَاشِعًا}حث على تأمّل مواعظ القرآن، وبيَّن أنه لا عذر في ترك التدبُّر؛ فإنه لو خوطب بهذا القرآن الجبالُ مع تركيب العقل فيها لانقادت لمواعظه، ولرأيتها على صلابتها ورزانتها خاشعةً متصدّعةً؛ أي متشقِّقةً من خشية الله.والخاشع: الذليل.والمتصدع: المتشقق.وقيل: {خِاشِعًا} لله بما كلّفه من طاعته.{مُّتَصَدِّعًا} من خشية الله أن يعصيه فيعاقبه.وقيل: هو على وجه المثل للكفار.قوله تعالى: {وَتِلْكَ الأمثال نَضْرِبُهَا لِلنَّاسِ} أي إنه لو أنزل هذا القرآن على جبل لخشع لوعده وتصدّع لوعيده؛ وأنتم أيها المقهورون بإعجازه لا ترغبون في وعده، ولا ترهبون من وعيده! وقيل: الخطاب للنبيّ صلى الله عليه وسلم؛ أي لو انزلنا هذا القرآن يا محمد على جبل لما ثبت، وتصدع من نزوله عليه؛ وقد أنزلناه عليك وثبَّتْناك له؛ فيكون ذلك امتنانًا عليه أن ثبّته لما لا تثبت له الجبال.وقيل: إنه خطاب للأمة، وأن الله تعالى لو أنذر بهذا القرآن الجبال لتصدعت من خشية الله.والانسان أقل قوةً وأكثر ثباتًا؛ فهو يقوم بحقه إن أطاع، ويقدر على ردّه إن عصى؛ لأنه موعود بالثواب، ومزجور بالعقاب. اهـ.
|